إن البواعث التي تدفع الإنسان إلى العمل كثيرة ومتباينة، وربما لا يدركها العامل نفسه؛ رغم أنها سرُّ اندفاعه، ولكنَّ العمل الذي يُرضي الله يجب أن يُبْنَى على إخلاص من العبد لله وقصد وجهه لا شريك له، وعندها ينال المسلم الثواب والأجر.
ففي الحديث الصحيح يقول r: "
إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى..."
[1]r: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ...فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[3]}."
[2]. والمرء ما دام قد أخلص نيَّتَه لله فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته، تُحتَسَب خطوات إلى مرضاة الله، ولئن كانت النيَّة الصالحة تضفي على صاحبها هذا القبول الواسع؛ فإن النيَّة المدخولة تنضمُّ إلى العمل الصالح في صورته فيستحيل بها إلى معصية تستجلب الويل، {. فإخلاص النية وصلاحها يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيصير عبادة مُتَقَبَّلة، فقال
فالقلب المقفر من الإخلاص لا يُنْبِتُ قَبُولاً، كالحجر المكسوِّ بالتراب لا يخرج زرعًا، فمن أنفس الإخلاص، وأغزر بركته، أنه يخالِط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة؛ ولذلك قال r: "
أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ"
[4].
والله U يريد من الناس أن يعرفوه حقَّ المعرفة، وأن يُقَدِّروه حقَّ قَدْرِهِ في السراء والضراء جميعًا، وأن يجعلوا الإخلاصَ له مكينًا في سيرتهم، فلا تَهِي صلتهم به أبدًا.
غير أن حرارة الإخلاص تنطفئ رويدًا رويدًا كُلَّما هاجت في النفس نوازع الأَثَرَة، وحبُّ الثناء، والتطلع إلى الجاه... وغير ذلك من أغراض الدنيا الزائلة.
والحقُّ أنَّ الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره في النفس أصبح ضربًا من الوثنية، التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم
[5]، وأرذلُ أنواع الرياء ما يظهر في لباس الطاعة؛ لأن صاحبه يشعر أنه يُرضي اللهَ بينما هو يعصيه، فكيف يتوب مما يظنُّه خيرًا وطاعة!!
إن الله لا يقبل من العبادة إلاَّ ما كان خالصًا لوجهه الكريم؛ لأنه الذي أمر بذلك، {
وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [6]}، وقال U: {
أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ[7]}.
إنَّ على كلِّ إنسان أنْ يُخْلِص عمله لله، وألاَّ يريد به إلاَّ وجهَ الله؛ فإنَّ العلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا هي قَلَّتْ تركت به ثُلَمًا شتَّى ينفذ منها الشيطان.
{
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
[8].
[1] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله r (1) عن عمر بن الخطاب t، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله r: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ..." (1907).
[2] البخاري: كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2195) عن أنس بن مالك t، ومسلم: كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (1552).
[3] (الماعون: 4-7).
[4] الحاكم (7844) عن معاذ بن جبل t، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعليق الذهبي في التلخيص: غير صحيح. والبيهقي: شعب الإيمان (6593)، وتفسير ابن أبي حاتم (6196).
[5] فلننظر معًا إلى وصية الرسول r لعبد الله بن عمرو بن العاص، الذي قال لرسول الله r: أخبرني عن الجهاد والغزو. فقال: "
يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا". أبو داود (2519)، والحاكم (2437)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. وتعليق الذهبي في التلخيص: صحيح.
[6] (البينة: 5).
[7] (الزمر: 3).
[8] (الكهف: 110).